حمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد/
فمن أبرز الظواهر الإجتماعية التي إنتشرت مؤخرًا إنتشار النار في الهشيم، والتي أصبحت تُشكِّل قلقًا شبه مستمرٍ عند الكثيرين، تلك الكميات الهائلة من الرسائل الإلكترونية التي تزدحم بها كلاً من المساحة المُخصصة للبريد الإلكتروني، أو صندوق الرسائل الواردة إلى الهواتف الجوالة في يد كل فردٍ من أبناء المجتمع، والتي -لا شك- أن الكثير منها تعمل على تحريك المشاعر وإستدرار العواطف بما تشتمل عليه من عباراتٍ وعظيةٍ رقيقة، وإستشهاداتٍ قرآنيةٍ أو حديثيةٍ أو تُراثيةٍ مُنتقاةٍ بعناية، ولاسيما إذا ما صُبغت بالصبغة الأدبية كالحِكم والأمثال والأشعار التي تُضفي عليها بُعدًا آخر من الروعة والتأثير.
ومع أن مثل هذه الرسائل تُقدِّم في بعض الأحيان خدماتٍ جليلةٍ للإنسان بما تمتاز به من سرعة الإنتشار، وإختصار الوقت، وتوفير الجهد، إضافةً إلى إسهامها الواضح في تيسير عملية الإتصال بين الناس، وجعل إمكانية التواصل بينهم سهلةً ومُيسرةً إلى حدٍ كبير، سواءً أكان تواصلاً بالصوت أم بالصورة أم بالكلمة المكتوبة مهما تباعدت أماكنهم، ومهما إختلفت بيئاتهم، إلا أن هناك بعضًا من السلبيات الخطيرة التي ترتبت على سوء إستخدامها، وعدم توظيفها فيما ينبغي أن توظف فيه ولأجله.
وهنا أود أن أُشير إلى أن هناك جانبًا مُهمًا في هذه الظاهرة، ومن الضرورة بمكان أن يعي كلُ مسلمٍ أبعاده وخفاياه، ألا وهو المحتوى الذي تشتمل عليه هذه الرسائل على إختلاف أنواعها، والذي لا يخرج واقعه -في الغالب- عن أحدى الحالات التالية:
¤ الحالة الأولى:
أن تكون الرسائل صادقةً في محتواها، وصادرةً عن مصدرٍ موثوقٍ في علمه وأمانته، وعادةً ما تشتمل رسائل هذا النوع -في الغالب- على الرسائل الناصحة أو الوعظية التي تُذكِّر الناسي وتُنبّه الغافل، أو الرسائل الإخبارية التي تنقل الأخبار والأحداث أولاً بأول، أو الرسائل الإعلانية عن بعض الدروس، أو المحاضرات، أو الندوات، أو اللقاءات، أو الإجتماعات، أو المواعيد للعمل أو السفر أو نحو ذلك، أو الرسائل التذكيرية ببعض الأذكار والأدعية، أو المناسبات المتكررة، أو فضائل الأعمال، وقد تكون الرسائل إستفهامية عن أمرٍ ما أو موعدٍ مُحدد أو نحو ذلك مما لا يخفى نفعه ولا تُنكر فائدته، وقد تكون هُناك أنواعٌ أُخرى من الرسائل التي تتبع هذا النوع على إختلاف أهدافها وأغراضها.
¤ الحالة الثانية:
أن تكون الرسائل مُرسلةً من بعض أبناء المسلمين الذين دفعتهم عواطفهم الجياشة ورغبتهم الأكيدة في عمل الخير إلى إرسالها ونشرها إحتسابًا للأجر، وطمعًا في الثواب، ورغبةً في تعميم الخير على زعمهم، ولاسيما أن مثل هذه الرسائل تكون مُذيلةً ببعض العبارات المؤثرة التي يأتي من أبرزها ما يلي:
أنشر تؤجر، ولا تنس أن الدال على الخير كفاعله، وتذكَّر أن من كتم علمًا ألجمه الله بلجامٍ من النار، ولا تجعل الخير يقف عندك ولا تجعل هذه الرسالة حبيسة جهازك، وهل ستتغلب على الشيطان فتنشرها؟ أم أن الشيطان سيحول بينك وبين عمل الخير ونشره بين الناس؟!، واستحلفك بالله العظيم أن تُرسلها إلى عشرة آخرين، وأمانة في عنقك أن تُرسلها إلى من تعرفهم من الإخوان والأخوات، إلى غير ذلك من العبارات المؤثرة التي قد تدفع مستلم الرسالة إلى سرعة الإستجابة والمبادرة لإعادة توجيهها للآخرين طمعًا في الأجر والثواب، وحُبًا في عمل الخير ونشره.
¤ الحالة الثالثة:
أن تكون الرسائل مرسلةً لأهدافٍ وأغراضٍ مشبوهةٍ وغير واضحة، وعادةً ما تكون مصادرها في مثل هذه الحالة من بعض المواقع المشبوهة أو المُعادية للدين الإسلامي كالمواقع النصرانية والعَلمانية والتبشيرية والإلحادية وغيرها من المواقع والجهات التي تسعى من خلال نشر وتعميم تلك الرسائل المكذوبة أو غير الصحيحة في محتواها، أو غير الدقيقة في معلوماتها إلى تشويه الدين والتشويش عليه، ومحاولة التشكيك في حقائقه الثابتة، أو الطعن في مسلماته الواضحة.
ومن أمثلة هذا النوع من الرسائل تلك التي تتحدث عن بعض الاكتشافات الجديدة المزعومة في ميدان الإعجاز العلمي، أو في أي فرعٍ من فروع العلم والمعرفة بدون دليلٍ أو برهانٍ علميٍ واضحٍ وصريح، أو التي تتحدث عن بعض الرؤى والمنامات التي رآها أحد الناس للرسول صلى الله عليه وسلم، أو أحد الصالحين للحث على الإتيان ببعض الأعمال الساذجة والتي لا تخرج عن كونها بِدعٌ وخُزعبلاتٍ وضلالات، والتأكيد على من وصلته الرسالة أن يجتهد في نشرها، وتهديده إن أهملها بالتعرض للأذى والمصائب ونحو ذلك، أو أن تكون الرسالة عن بعض الصور المُدبلجة -في الغالب-، والتي يزعم مرسلها أن لها بعض الدلالات الإعجازية، أو أنها تفسيرٌ لبعض الأسرار الكونية التي -غالبًا- ما تتعلق بالقرآن الكريم، أو السنة النبوية، أو بالأماكن والمشاعر المقدسة، ونحو ذلك من رموز الدين ومشاعره في حين أنها في الحقيقة غير صحيحة، وإنما تمت معالجتها بواسطة برامج الحاسب الآلي لتبدو كذلك.
¤ الحالة الرابعة:
أن تكون الرسائل مُرسلةً لغرض نشر الفساد بين الناس، والدعوة إليه بين أبناء المجتمع كبارًا كانوا أم صغارًا، والعمل على نشر الرذيلة، وإثارة الغرائز والشهوات، وإشاعة الفاحشة بين الناس -والعياذ بالله- عن طريق الزعم الباطل بفضح الأسرار، ونشر الحقائق، ونحو ذلك من المزاعم الباطلة والأكاذيب المختلقة التي قد تدفع البعض إلى الإنسياق خلفها وتتبُع خطواتها الآثمة التي تكون نتيجتها النهائية الوقوع في الفواحش، وإتيان المنكرات القولية والفعلية مصداقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21].
وهذا النوع من الرسائل شديد الخطورة وعظيم البلوى، ولاسيما على من ضعُف عنده الوازع الديني، أو إنعدمت الرقابة عليه ذكرًا كان أم أُنثى، صغيرًا كان أم كبيرًا، لما قد يترتب عليها من المخالفة لأوامر الله تعالى، وعدم الإلتزام بتعاليم الدين الحنيف، والإسهام المباشر أو غير المباشر في نشر المنكرات بين الناس، ولأن نشر وتداول تلك الرسائل تُمثل شكلاً من أشكال الدعوة المُباشرة إلى الفساد والإفساد، ونمطًا من أنماط المجاهرة بالمعاصي في المجتمع ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وعلى الرغم من ذلك كله، فإن هذه الرسائل الإلكترونية تُعد واقعًا نعيشه ونتعامل معه في كثيرٍ من شؤون ومُجريات حياتنا، بل إنها أصبحت عند البعض ضرورةً لا يمكن أن يستغني عنها في تعاملاته اليومية، الأمر الذي يوجب علينا جميعًا أن نهتم بها، وألاّ نعُدها مسألةً هامشيةً في حياتنا، وأن نعمل على الإفادة المُمكنة منها، وأن نُحسن التعامل معها، وأن نُكيفها إيجابيًا لواقعنا الإسلامي الصحيح الذي لا ينبغي بحالٍ من الأحوال أن ينفصل أو يتعارض مع مبادئ ديننا الخالدة، وتوجيهات تربيتنا الإسلامية السامية التي تدعو وتُربي الإنسان المُسلم على تقوى الله تعالى، ومُراقبته في السر والعلن، وتحثُه في كل وقتٍ على التحلي بمكارم الأخلاق، وتربيه على التمسك بالفضائل والتخلي عن الرذائل من الأقوال والأعمال والنيات.
أما كيفية ذلك فتكون بمُراقبة الله تعالى عند إستخدام هذه الرسائل الإلكترونية أيًا كان نوعها، وتحري الصدق والموضوعية عند تبادلها مع الآخرين، والحرص على أهم المبادئ التي يجب علينا أن نُراعيها وأن نعمل بها في هذا الشأن، ألا وهو مبدأ التثبت والتبيُّن والتأكُد والتحقق الذي لا يكون غلا بتحري الصدق، ولاسيما أنه قد جاء الأمر بذلك والحث عليه في القرآن الكريم، إذ يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
وهذا يعني أنه لابد من التأكد والتثبُت من صدق محتوى الرسالة قبل إرسالها أو إعادة توجيهها للآخرين، وتحكيم العقل السليم والمنطق الرشيد في هذا الشأن، وعدم الإنسياق وراء مجرد العاطفة التي قد ينجرف البعض خلفها طمعًا في الخير، فيقع في المحظور لا سمح الله.
كما أن مما ينبغي مراعاته أن يعلم مُرسل الرسالة أنه سيموت يومًا ما، وربما بقيت تلك الرسالة لوقتٍ طويلٍ والناس يتناقلونها بين أجهزتهم وهي مُذيلةٌ باسمه، فيكون بذلك مسؤولاً أمام الله تعالى عن محتواها إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ومعنى هذا أن عليه تبعًا لذلك أن يحتسب أجرها، أو أن يتحمل وزرها مصداقًا لما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من سنَّ في الإسلام سُنةً حسنةً، فله أجرها، وأجرُ من عمِل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سُنةً سيئةً، كان عليه وزرها ووزرُ من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» رواه مُسلم، الحديث رقم 2351، ص 410- 411.
ولهذا كله، فإن من الواجب علينا جميعًا أن نقف مع أنفُسنا وقفة مراجعةٍ ومُحاسبة، وأن نُعيد النظر في تعاملنا مع هذه الجزئية، التي تحتاج منا أن نضبطها وأن نُخضعها للمقياس الرباني القرآني المُتمثل في ضرورة التبيُّن والتأكد قبل النشر أو إعادة الإرسال، وعدم الإنجراف خلف كثيرٍ من تلك الرسائل غير الموثوقة في مصادرها، ولاسيما إذا ما كانت لنشر الأخبار، أو متابعة بعض الأحداث المجتمعية، فجزءٌ كبيرٌ منها -كما يُشير إلى ذلك واقع الحال- يعتمد على القيل والقال، وعلى الإشاعات الكاذبة أو المُغرضة، ويقوم على عدم المصداقية في تناقل الأخبار، وهذا معناه الكذب، ومخالفة الواقع، وذلك -كما نعلم جميعًا- مما يتنافى مع ملامح شخصية الإنسان المسلم التي يجب عليها أن تُدرك عِظم مسؤولية الكلمة سواءً أكانت منطوقةً أو مكتوبة، والله نسأل أن يوفقنا جميعًا لصادق القول وصالح العمل والحمد لله رب العالمين.
الكاتب: د. صالح بن علي أبو عرَّاد الشهري.
المصدر: موقع المستشار.